كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



توحيد الله هو العهد الأعظم الذي أخذ على العباد قاطبة فليس لبشر أن ينقض هذا العهد أو يتمرد عليه!! ومع ذلك فإن البعض يشبه اللقيط الذي يجهل أباه فهو يحيا بعيدا عنه، أو يعرفه معرفة فاسدة فهو سيئ الظن به غبى الفهم له.. والذين يظنون مع الله إلها آخر هم من هذا القبيل. وأهل الأديان السماوية يؤكدون أنهم موحدون! والواقع أن موقف النصارى من عيسى يحيط به ضباب كثيف! إنهم يعبدون الله الواحد كما يقولون. فما مكان عيسى في هذه العبادة..؟ عند التحقيق يبدو وكأن عيسى مقحم على الواحد المعبود، أو يبدو كأنه شخص له مكانة عظيمة رجراجة لا يمكن ضبطها.!! ونحن في هذه الأيام نسمع من رؤساء الكنائس أن الله واحد فإذا صدقوا فعيسى عبده لا محالة...! وهذا ما جعلنى أنظر بجد وثقة إلى ما أعلنه الدكتور محمد معروف الدواليبى من أن لديه وثيقة صادرة عن الفاتيكان تقر فيها أن المسيح عبد من عباد الله، ولا علاقة له بألوهية. وقد أصدر الفاتيكان هذه الوثيقة بعد دراسات كنسية ظلت أربع سنين كاملة شارك فيها عدد من الرجال الثقات.. وأضاف: أن الوثيقة تتضمن تعليمات صريحة بألا يذكر المسيح على أنه الإله، وإنما يذكر فيها الله خالق السموات والأرض ورب إبراهيم!! والغريب أن هذه الوثيقة اعترفت بأن الكنيسة ارتكبت مظالم عديدة ضد الإسلام والمسلمين، وأن يجب الانفتاح في هذه الأيام على الإسلام. كما أبدت الكنيسة أسفها على أنها كانت من وراء الحروب الصليبية ثم من وراء الاستعمار العالمى الجديد للدول الإسلامية. وأنها كانت من وراء قيام إسرائيل لضرب العروبة والإسلام، والواجب أن يدخل النصارى في حوار مع العرب والمسلمين لمعالجة هذا الماضى السيئ.. قال الدكتور الدواليبى: إن اليهود بوسائلهم الكثيرة قاموا بسحب هذه الوثيقة، وقد وضع الأمير جيه رئيس المخابرات الإنجليزية الأمريكية كتابا فضح فيه ما صنع اليهود، فقاموا بخطفه وزوجته وأولاده.. إلخ.
ونحن نذكر القراء بأن موقف النصارى من عيسى بن مريم شديد الإبهام كما أومأت إلى ذلك سورة النساء في قوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} إن الله وحده هو الحق المبين، وذاك سر غضبه الشديد عندما يقول: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا..} واليهود- وإن أنكروا التثليث- يصفون الله. بصفات رديئة ويتطاولون عليه بألسنتهم، وليس في قلوبهم خشوع ولا إخلاص. ومع ذلك يزعمون أنهم الشعب المختار، وأن الله خلق العالم من أجلهم ولخدمتهم.. وكلا الفريقين من أهل الكتاب يزعم صلة خاصة بالله، ومكانة فريدة عنده! وكل يدعى وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا...!! ونحن نعلم أن الإيمان الحق والعمل الصالح وحدهما هما أساس القبول الأعلى، وبهما تسبق الأفراد والأمم، ولذلك لم يعجبنى قول البوصيرى في تفضيل الأمة الإسلامية على غيرها. لما دعا الله داعينا لطاعته بأشرف الخلق كنا أشرف الأمم!! إن المسلمين لا يشرفهم إلا الإخلاص لله، والتفانى في طاعته، والشجاعة في نصرته والجراءة على عدوه. والانتماء المجرد لمحمد عليه الصلاة والسلام- وهو أفضل الخلق يقينا- لا يغنى عن العاطلين شيئا... وقد ساقت سورة المائدة قصتين تكشفان أن أصحاب الدعاوى لا وزن لهم ما لم تؤيدهم بينات! الأولى قصة بنى إسرائيل عندما كلفوا بمقاتلة الجبارين ودخول أرضهم، لقد استثارهم موسى، وذكرهم بنعم الله عليهم {لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين..} وهذا كلام يحتاج إلى شرح. إن بنى إسرائيل حملوا دعوة التوحيد بين جماهير من البشر هامت في عبادة الأصنام، فكانوا- بالدعوة التي حملوها- أعلى من غيرهم قدرا... وقد أرسل الله إلى العرب أنبياء يعدون على الأصابع على حين أرسل في بنى إسرائيل عشرات الأنبياء!! أما جعلهم ملوكا فهو بالاكتفاء والاستغناء على نحو ما جاء في الحديث «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»!!
ويظهر أن بنى إسرائيل لم يفهموا أنهم شرفوا بالدعوة، بل ظنوا أن الدعوة شرفت بهم!! وحسبوا أنهم مقبولون عند الله، ولو لبسوا الدين على أجسام قذرة. وهيهات لقد محصهم القدر العادل فلما تبين جبنهم تقرر طردهم قال لهم موسى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}. فأبوا الانقياد لأمر الله، وبلغت بهم الوقاحة أن قالوا لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}!! فجعل الله عليهم سيناء مصيدة يحتبسون داخلها، ويتيهون فيها لا يعرفون طريقا للخروج أربعين سنة حتى هلك أكثرهم!! وبقى من ترشحهم أخلاقهم لرضوان الله وحمل رسالاته.. هذه هي القصة الأولى في بيان أن الدين رجولة وإقدام وصدق وإيمان. أما القصة الثانية فهى قصة ابنى آدم اللذين قتل أحدهما الآخر! كان أحدهما بليدا فاشلا فنقم على أخيه الأفضل منه. والتناقض في حياة هذا الإنسان ظاهر. فهو قد فهم جيدا أن أخاه أفضل، وبعد أن تخلص منه لم يفهم كيف يدفنه بعد مماته!! كان غبيا هنا ذكيا هناك!! {فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين}!!. والفاشل يظن أنه إذا قتل الناجح يستفيد قوة جديدة. وهذا مستحيل، فإنك لن تبنى نفسك بهدم غيرك، ستظل كما أنت! إن الصلاح جهد إيجابى في تقوية النفس وتزكيتها، وليس قدرة على العدوان! {إنما يتقبل الله من المتقين} وقد عد الله سبحانه هذه الجريمة ضد الإنسانية كلها وليست ضد فرد واحد {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.
والقرآن الكريم يربى المسلمين على ضوء ما وقع في العصور الخوالى، ويشرع لهم من الأحكام ما يجنبهم مزالق الأمم الأولى، ومن ثم فقد ذكر بعد هذه القصة حكم المفسدين في الأرض المعتدين على الأنفس والأموال.
فشرع عقوبة قطع الطريق، وعقوبة السرقة، وبين التشريعين نبه إلى ضرورة تقوى الله. ان ابن آدم الفاشل إنما ضاع لفراغ قلبه من التقوى، فعلى أهل الإيمان أن يتجنبوا ذلك المصير {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} والوسيلة المطلوبة هي الأعمال الصالحة، والعمل الصالح يحتاج في أدائه إلى عزيمة تقهر العقبات، وتسترخص النفس والنفيس، وهذا هو الجهاد المؤدى إلى الفلاح.
والوحى الإلهى هو المصدر الفريد لشرائع العبادات، وشرائع المواريث، وشرائع الحدود والقصاص، ولا مكان هنالك لرأى أو قياس أو مصلحة. وأهل الأديان المتعاقبة يتوارثون هذه الحقيقة، ولكنهم يحيدون عنها أحيانا لغلبة الأهواء، وضعف مبدأ السمع والطاعة!! إن الجرائم التي تقع على الدماء، والأموال والأعراض خطيرة الآثار، ولذلك تولى الله سبحانه الحكم فيها، ولم يتركها لاجتهاد أحد، لأن الناس سوف يتساهلون في التطبيق الواجب، ويحتالون باختلاق بدائل لا تسمن ولا تغنى من جوع... والبشر عندما يسنون قانونا يتصورون أنفسهم مكان الجانى فتخف حدتهم، وتذهب غيرتهم على الحق، فإن لم يضعوا أنفسهم مكان الجانى وضعوا أولادهم وأقاربهم، فكانوا أميل إلى تخفيف العقوبة والرحمة بالمجرمين! وربما كان للأوضاع الاجتماعية أثرها في مؤاخذة الضعيف ومسامحة الشريف! وقد شاع ذلك في أهل الكتاب الأولين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».. وقد تطورت الأمور بين أهل الكتاب فأهمل حكم القطع وتنوسى عمدا، وحلت مكانه عقوبات بالسجن مددا مختلفة مما جعل جرائم السرقة لا حصر لها. وعد ذلك عدالة أرقى من عدالة السماء. وكذلك وقع التغيير في جرائم شتى وانتهى الأمر إلى إلغاء الحدود كلها..!!
وقد تفرست في أحوال المجتمعات، وعواقب هذا التفريط فوجدت الخسائر المادية والمعنوية كثيرة، اختل الأمن وضاعت أموال وأعراض، وحلت بالأمم كوارث شتى. ففهمت معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا». وما روى عنه «أقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم»!! وكان المسلمون في تاريخهم الطويل يقيمون الحدود ويصونون الدماء والأموال والأعراض. ولم يتركوا الأحكام السماوية إلا عندما أغار عليهم التتار. واستبدلوا بالأحكام السماوية تعاليم من وضع طواغيتهم في كتاب اسمه «الباسق».. وتكررت هذه المحنة عندما أغار الأوربيون على العالم الإسلامى، وأحلوا القوانين الوضعية محل الشرائع الدينية فشاع في أرجاء الدنيا فساد عريض. والأوربيون في قوانينهم أباحوا الزنا مادام بالتراضى الحر! وأباحت أرقى دولهم اللواط!! وأهالوا التراب على شرائع الحدود والقصاص فلا يتحدث عنها أحد إلا جريئا يتعرض للملام والمؤاخذة.. والأوربيون في هذا المضمار يقلدون آباءهم الأولين، وإن كان فجورهم تجاوز الحدود، وقد حدث عندما هاجر الرسول إلى المدينة أن قدم إليه اليهود زانيين للنظر في أمرهما. فسألهم الرسول عن الحكم في كتابهم قالوا الجلد وتسويد الوجوه!! فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: بل الحكم عندكم الرجم حتى الموت!! فكابروا حتى جئ بالتوراة، واستخرج الحكم منها وهو الرجم الذي أرادوا إلغاءه، وقد نزل في هذا قول الله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا..}. والتسوية بين المنافقين واليهود مقصودة في الآية، فكلا الفريقين خرب القلب، وكلاهما حرب على شرائع السماء..!! وظاهر أن الرجم من الجزء الصحيح الباقى في التوراة، وقد رأى اليهود تعطيله! فماذا عند القوم بعد ذلك إلا وصف الله وأنبيائه بما لا يليق؟.وقد أبى رسول الله أن يلين للقوم وإن كابروه طويلا {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}.
والآية لا توهم الجبر فإن المراد منها أن من ركب قطار الشر انطلق به، ومن زرع الشوك فلا يجنى فاكهة! الآية هنا كقوله تعالى في سورة مريم: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا}. والمفروض أن شرائع الدماء والأموال والأعراض تنفذ في الدولة على كل من يستظل برايتها، وإن اختلفت الأديان.. والذى نراه أن اليهود كان لهم كيان مستقل، والمعاهدات التي عقدت معهم أول الهجرة لم تلغ هذا الاستقلال. ومن ثم لم يرغمهم الرسول على إقامة الحكم الذي أصدره، بل قيل له: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}. والمسلمون مكلفون بإقامة حكم الله داخل سلطانهم، ولا طاقة لهم على إقامته في كل مكان، وأهل الأديان الأخرى تترك لهم شعائرهم وعقائدهم دون مساس بها. أما بقية الشرائع العامة فتتناول الجميع... وحكم الرجم في سفر التثنية أن من تزوج عذراء، فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها، وإذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة ذات بعل يقتل الاثنان.. ويقول السفر المذكور: «إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها آخر في المدينة فاضطجع معها، فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا!! الفتاة من أجل أنها لم تصرخ، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، بذلك تنزع الشر من وسطك...» ثم ذكر القرآن الكريم تاريخا موجزا لموقف أهل الكتاب من شرائع الدماء والأعراض، فبين أنها نزلت في التوراة ليلتزم بها اليهود. ثم تأكدت في الإنجيل ليحكم بها النصارى. فمن تركها جحدا أو جور أو فسقا فهو داخل في الكفر أو الظلم والفسوق.. وهذا التاريخ ذكر لواقع مضى، فالتوراة تحكم أتباعها مادامت التوراة باقية. فإذا جاء بعدها الإنجيل انتقل الحكم إليه وعلى أتباعه تنفيذ ما جاء به. فإذا جاء القرآن فإن على الفريقين الالتفات إلى الوحى الجديد والأخذ عنه، لاسيما وهو يصحح الأخطاء، ويبعد الدخيل وينصف الحقيقة {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا..}. هناك أمران تضمنتهما هذه الآية، الأول أن الدين اكتمل في رسالة محمد عقيدة وشريعة. فأما من ناحية الاعتقاد فقد اتضح على خير وجه معنى التوحيد والجزاء والعبادة، والرسول في هذا كله مؤكد لمن سبقوه، ومصحح لأغلاط الأتباع {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. وأما الشريعة فإن أصولها نزلت من عند الله ثم تفرع منها بعد ما دل عليه القياس والاستصلاح والاستحسان وغير ذلك من قواعد الفقه العملى الكافل لمنافع الناس. والدين واحد، ولكن الشرائع تختلف وهنا يجئ الأمر الثانى. وأساسه أن رسالة محمد تضمنت أسباب بقائها إلى آخر الدهر، فهى موائمة لطبائع البشر عامة، متجاوبة مع نداء الفطر السليمة، وصبغتها الإنسانية العامة واضحة في سائر تعاليمها.. أما تراث أهل الكتاب السابقين فهو يشبه دواء حددت صلاحيته بمدة معينة لا يصلح بعدها للاستشفاء، بل قد يكون سببا في مضاعفة الآلام بعد انتهاء تاريخه ويذكر صاحب المنار أن اليهودية قائمة على الشدة في تربية قوم ألفوا العبودية والذل وفقدوا الاستقلال والرأى فهى مادية جثمانية صارمة تعالج شعبا غليظ الرقبة متحجر الطباع. وقارئ الأسفار الخمسة يعيش في جو من البداوة والضيق.. أما المسيحية فهى لم تنقض النواميس الأولى، وإنما نزعت إلى ترقيق العواطف، ومنع الصدام مع الرومان الحاكمين، وقبول سلطتهم العاتية على أساس. «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر!!». ثم ما لبثت قليلا حتى تحولت إلى صليبية شديدة البأس والخصام، لا تقبل سلاما من مهزوم. أما الإسلام فأفق آخر زاوج بين الروح والجسد والقلب والعقل والدنيا والآخرة. وأكبر الإنسان وأعلى رسالته، وأقام علاقته بالله وبالناس على دعائم عقلية راسخة... قال الشيخ رشيد رحمه الله بعد بحث طويل: من فقه ما حققناه علم أن حجة الله تعالى في إكمال الدين بهذا القرآن الكريم. وختم النبوات بمحمد عليه الصلاة والسلام. وجعل شريعته عامة دائمة.. هذه الحجة لا تظهر إلا ببناء هذا الدين على أساس العقل، وبناء هذه الشريعة على أساس الاجتهاد، وطاعة أولى الأمر- الحقيقيين، وهم جماعة أهل الحل والعقد!! فمن منع الاجتهاد، فقد منع حجة الله تعالى وأبطل مزية هذه الشريعة على غيرها، وجعلها غير صالحة لكل الناس في كل زمان... فما أشد جناية هؤلاء الجهال على الإسلام. يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء...} فمن هم أولئك اليهود والنصارى الذين نهينا عن موالاتهم؟. إن السياق وحده هو الذي يحدد أوصاف هؤلاء، والآيات التي تليت من قبل أو التي تتلى من بعد تشرح حقيقتهم. وعند التأمل تظهر لنا ثلاث فئات... الفئة الأولى تكره شريعة الإسلام، وتجمح بها الكراهية جماحا شديدا. فهى تفضل عليها كل شرائع الجاهلية! وأذكر أن مسيحيا عربيا سئل: إنكم تدعون ما لقيصر لقيصر، وتذعنون لأى حكم يضمن لكم شعائركم الدينية، فلم لا ترضون بشريعة محمد- وهو عربى منكم- وتتركون المسلمين يستعيدون أحكامهم السماوية التي سلبهم إياها الاستعمار الصليبى؟؟. فكان جوابه: نحن نقبل تشريعا استراليا أو أمريكيا، ولا نقبل شريعة محمد. إن المسلمين سيتطاولون في ظل تشريعهم، ولا نحب ذلك!! موقف هؤلاء الكتابيين واضح قديما وحديثا وفيهم نزلت الآيات: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون * أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}. هذه فئة من الناس أخرجتها الضغائن عن وعيها، وحرمتها الإنصاف، فلا غضاضة في النهى عن موالاتهم، إنك قد تعدل مع من تكره، ولكنك لا تستطيع محبته...! الفئة الثانية من هذا الصنف هم المائلون بقلوبهم إلى أعدائنا، وتخاف خيانتهم عندما تسنح فرصة! إن المسلمين يشتبكون في حروب مع أعدائهم، وينبغى أن تكون جبهتهم الداخلية متصلة لا ثغرة فيها، فإذا وجد من يتمنى لهم الخبال وينتظر لهم الهزيمة فالأمر صعب. وقع هذا قديما وذكرته الآية الكريمة {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}.